مواقف تربوية من الصحابي أبي أيوب الأنصاري
بقلم : د. عبد الرحمن البر
اسمه ونسبه وكنيته: هو الصحابي الجليل والسيد النبيل أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار بن ثعلبة بن الخزرج، النجاري الخزرجي الأنصاري البدري.
إسلامه: أسلم أبو أيوب رضي الله عنه مبكرًا مع أوائل الأنصار الذين أسلموا، وسمَّاه عروة بن الزبير فيمن شهد بيعة العقبة مع السبعين الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم.
نزول النبي- صلى الله عليه وسلم- عليه: كان بنو النجار من الأنصار أخوال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، إذ كانت أم جده عبد المطلب منهم، ولهذا فإنه- صلى الله عليه وسلم- حين أراد النزول في المدينة في هجرته المباركة رغب في إكرامهم بالنزول عليهم، وكان أبو أيوب أكثرَهم حظوةً إذ نزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بيته، حتى بنى المسجدَ في أرض الغلامين النجاريين، وابتنى بجواره مسكنًا لزوجه زمعة- رضي الله عنها-، وقد أصر بنو النجار أن يتحملوا هم ثَمنَ المسجد، كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، وذكر الزبير بن بكار أن الذي أرضى الغلامين بالثمن هو أبو أيوب رضي الله عنه.
وقد ورد أن الأنصار اقترعت أيهم يؤوي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقرعهم أبو أيوب، فآوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا مما جعل الله من الفضل له رضي الله عنه.
تمسكه والتزامه السنة: كان أبو أيوب- رضي الله عنه- حريصًا كل الحرص على متابعة النبي- صلى الله عليه وسلم- في كل شيء، حتى كان يتتبع موضع أصابع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الطعام، وهذا مؤشر على إتباعه- رضي الله عنه- لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما هو أهم من ذلك من أمور الدين وأحكام الشريعة، ومن ذلك أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يداوم على صلاةٍ عند زوال الشمس فداوم هو عليها، كما في الحديث عند الإمام أحمد.
فهمه للقرآن وعلمه بأسباب النزول: كان أبو أيوب- رضي الله عنه- مدركًا لمعاني القرآن، عارفًا بأسباب نزوله، يضع كل آية موضعها ويفهمها على وجهها الصحيح، من غير تعسفٍ أو تكلف، ولهذا لما سمع بعض الناس يفهمون بعض الآيات على غير وجهها بادر- رضي الله عنه- بإيقافهم على معناها الصحيح، فعن أسلم أبي عمران التُّجِيبي مولى تُجِيب قَالَ: كُنَّا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّامِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا صَفٌّ عَظِيمٌ مِنَ الرُّومِ، وَخَرَجَ مِنَّا صَفٌّ عَظِيمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ فَقَتَل فِيهِمْ، ثُمَّ جَاءَ مُقْبِلاً، فَصَاحَ النَّاسُ فَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ فقال: "يَأَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دِينَهُ، وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، قُلْنَا بَيْنَنَا سِرًّا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَلَوْ أَقَمْنَا فِيهَا، فَأَصْلَحْنَا مِنْهَا مَا قَدْ ضَاعَ مِنْهَا! فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هذه الآيةَ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا هَمَمْنَا بِهِ فِي أَنْفُسِنَا أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا، فَنُصْلِحَ مَا قَدْ ضَاعَ مِنْهَا، فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الَّتِي أَرَدْنَا أَنْ نَفْعَلَ، وَأَمَرَنَا بِالْغَزْوِ". فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ يَغْزُو حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.
عدد مروياته: يعد أبو أيوب- رضي الله عنه- من فقهاء الصحابة وعلمائهم، ومن المتوسطين في الرواية الذين جاوز عدد أحاديثهم المائة، فقد بلغت عدة أحاديثه في مسند بقي بن مخلد (155)، وفي مسند أحمد (101)، واتفق له الشيخان على (7) أحاديث، وانفرد البخاري بحديثٍ واحد، ومسلم بخمسة أحاديث.
مرضه ووفاته وطلبه أن يُدفن في أرض العدو: خرج أبو أيوب- رضي الله عنه- في غزوة القسطنطينية سنة خمسين أو اثنتين وخمسين، في خلافة معاوية- رضي الله عنه-، فكتب الله له الوفاة غازيًا في سبيل الله، ودُفن هناك تحت سور القسطنطينية.
عن محمد بن سيرين قال: شهد أبو أيوب بدرًا، ثم لم يتخلف عن غزاةٍ للمسلمين إلا هو في أخرى، إلا عامًا واحدًا، فإنه استُعْمِل على الجيش رجلٌ شابٌّ، فقعد ذلك العام، فجعل بعد ذاك العام يتلهف ويقول: وما عليَّ مَن استُعمل عليَّ! وما عليَّ مَن استُعمل عليّ! وما عليَّ مَن استُعمل عليَّ! قال: فمرض، وعلى الجيش يزيد بن معاوية، فأتاه يعوده فقال: حاجتَك. قال: نعم حاجتي إذا أنا مِتُّ فاركب بي ثم سُغْ بي في أرض العدو ما وجدت مَسَاغًا، فإذا لم تجد مَسَاغًا فادفني ثم ارجع. قال: فلما مات ركب به، ثم سار به في أرض العدو، وما وجد مساغًا، ثم دفنه ورجع. قال: وكان أبو أيوب رضي الله عنه يقول: قال الله عزَّ وجل ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً﴾ (التوبة: من الآية 41) فلا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلاً.
وهكذا لقي أبو أيوب- رضي الله عنه- ربَّه راضيًا مرضيًا في ميدان الجهاد الذي أفنى فيه عمره، وأبلى فيه أحسن البلاء شابًّا وكهلاً وشيخًا، ليكون مثلاً وقدوةً لكل مسلم يرجو الله والدار الآخرة، رضي الله عنه وألحقنا به على خير.
الموقف الأول: أدبه مع النبي- صلى الله عليه وسلم- حين نزل عليه
كان أبو أيوب- رضي الله عنه- عظيم الأدب في ضيافته لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، شديد الحرص على راحةِ النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى التماسِ بركته- صلى الله عليه وسلم-، وكذلك كانت زوجه أم أيوب- رضي الله عنها-، وقد ابتدأت خدمتهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أول يومٍ نزل عليهم ضيفاً كريمًا.
فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ- رضي الله عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَلَيْهِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي السُّفْلِ وَأَبُو أَيُّوبَ فِي الْعِلْوِ، قَالَ: فَانْتَبَهَ أَبُو أَيُّوبَ لَيْلَةً، فَقَالَ: نَمْشِي فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم! فَتَنَحَّوْا فَبَاتُوا فِي جَانِبٍ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "السُّفْلُ أَرْفَقُ"، فَقَالَ: لاَ أَعْلُو سَقِيفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا، فَتَحَوَّلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْعُلُوِّ، وَأَبُو أَيُّوبَ فِي السُّفْلِ، فَكَانَ يَصْنَعُ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا، فَإِذَا جِيءَ بِهِ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ، فَيَتَتَبَّعُ مَوْضِعَ أَصَابِعِهِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ، فَلَمَّا رُدَّ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَأْكُلْ، فَفَزِعَ، وَصَعِدَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ؟، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا، وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ"، قَالَ: فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ، أَوْ مَا كَرِهْتَ. قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى أي تأتيه الملائكة والوحي، كما ورد ذلك صريحًا في بعض الروايات.
ويبين- رضي الله عنه- في روايةٍ أخرى رضي الله عنه جانبًا من هذا الحرص الذي دفعه إلى هذا الفعل، فيقول- رضي الله عنه- إَِنَّ نَبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ فِي بيْتِنَا الأَسْفَلِ، وَكُنْتُ فِي الْغُرْفَةِ فَأُهْرِيقَ مَاءٌ فِي الْغُرْفَةِ، فَقُمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوب بقَطِيفَةٍ لَنَا نَتْبعُ الْمَاءَ؛ شَفَقَةً أَنْ يَخْلُصَ الْمَاءُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَنَزَلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا مُشْفِقٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ يَنْبغِي أَنْ نَكُونَ فَوْقَكَ، انْتَقِلْ إِلَى الْغُرْفَةِ، فَأَمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بمَتَاعِهِ فَنُقِلَ، وَمَتَاعُهُ قَلِيلٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنْتَ تُرْسِلُ إِلَيَّ بالطَّعَامِ، فَأَنْظُرُ فَإِذَا رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابعِكَ وَضَعْتُ يَدِي فِيهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ هَذَا الطَّعَامُ الَّذِي أَرْسَلْتَ بهِ إِلَيَّ فَنَظَرْتُ فِيهِ، فَلَمْ أَرَ فِيهِ أَثَرَ أَصَابعِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَجَلْ، إِنَّ فِيهِ بصَلاً، فَكَرِهْتُ أَنْ آكُلَهُ مِنْ أَجْلِ الْمَلَكِ الَّذِي يَأْتِينِي، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَكُلُوهُ".
يُستفاد من هذا الموقف المفاهيم التربوية التالية:
(1) فضيلة أبي أيوب وأم أيوب رضي الله عنهما: حيث جعل الله بيتهما أولَ منزلٍ لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة، وقد وصف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم البيت بأنه من بيوت أهله، ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لما بركت ناقتُه يوم أن دخل المدينة: "أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟" فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذِهِ دَارِي وَهَذَا بَابِي. قَالَ: "فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلاً". قَالَ: قُومَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ...الحديث.
فحازت أسرة أبي أيوب رضي الله عنه هذه المنزلة الرفيعة والمكانة العالية ببركة هذه الضيافة الكريمة، وكانت خير مضيف لخير ضيف.
ولقد عرف خيارُ الصحابة هذه المنقبة وحفظوها لأبي أيوب- رضي الله عنه-، حتى تَسَنَّى لابن عباس رضي الله عنه أن يُكافئه ببعض ما يستحق، ويبقى له كريم الجزاء عند الله في دار الخلد، فعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ قَدِمَ الْبَصْرَةَ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، فَفَرَّغَ لَهُ بَيْتَهُ، وَقَالَ: لأَصْنَعَنَّ بِكَ كَمَا صَنَعْتَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: كَمْ عَلَيْكَ مِنَ الدَّيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ أَلْفًا، فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَعِشْرِينَ مَمْلُوكًا، وَقَالَ: لَكَ مَا فِي الْبَيْتِ كُلُّهُ.
(2) الأدب العالي الذي تمتع به أبو أيوب وأم أيوب رضي الله عنهما: فإذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم- قد اختار الطابق الأسفل من بيت أبي أيوب؛ ليكون ذلك أرفقَ بأبي أيوب رضي الله عنه، حيث يغشى النبيَّ عددٌ كثيرٌ من أصحابه، فإن نفسيهما الكريمتين لم تقبلا بالعلو فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يَكُفَّ أبو أيوب وأم أيوب رضي الله عنهما عن طلب راحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى منعهما ذلك النومَ، ودفعهما إلى الرفق الشديد عند الحركة، ثم لم تَطِبْ نفوسهما إلا بانتقال النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى الأعلى.
وقد جاء في رواية عند الطبراني: فَلَمَّا أَمْسَى وَبَاتَ، فَجَعَلَ أَبُو أَيُّوبَ يَذْكُرُ أَنَّهُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْفَلَ مِنْهُ، وَهُوَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَحْيِ، فَجَعَلَ أَبُو أَيُّوبَ لا يَنَامُ يُحَاذِرُ أَنْ يَتَنَاثَرَ عَلَيْهِ الْغُبَارُ ويَتَحَرَّكُ فَيُؤْذِيَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا جَعَلْتُ اللَّيْلَةَ فِيهَا غَمْضًا أَنَا وَلا أُمُّ أَيُّوبَ، قَالَ: "وَمِمَّ ذَاكَ يَا أَبَا أَيُّوبَ؟" قَالَ: ذَكَرْتُ أَنِّي عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ أَنْتَ أَسْفَلَ مِنِّي، فَأَتَحَرَّكُ فَيَتَنَاثَرُ عَلَيْكَ الْغُبَارُ، ويُؤْذِيكَ تَحْرِيكِي، وَأَنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْوَحْيِ... الحديث.
وإذا كان هذا الصحابي الجليل يستعظم أن يعلوَ النبي- صلى الله عليه وسلم- في السكن، فكيف بمَن يتقدَّم على رسول الله في أحكامه، ويقدم رأيه وهواه على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
(3) الكرم السابغ الذي تمتع به أبو أيوب وأم أيوب رضي الله عنهما: فقد التزما بتقديم الطعام يوميًّا للنبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- سواء مما صنعته أم أيوب أو مما كان الصحابة يهدونه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ويبدو أنهم كانوا يتكلفون صنع الطعام للنبي صلى الله عليه وسلم ولمَن ينزل عليه من أصحابه، فقد أخرج الترمذي عن أُمِّ أَيُّوبَ رضي الله عنها، أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَلَيْهِمْ فَتَكَلَّفُوا لَهُ طَعَامًا فِيهِ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ الْبُقُولِ فَكَرِهَ أَكْلَهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: "كُلُوهُ فَإِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ إِنِّي أَخَافُ أَنْ أُوذِيَ صَاحِبِي".
(4) تعاون أبي أيوب وزوجه أم أيوب في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم: فقد جمعهما طريق واحد، واجتمع قلباهما على حبِّ الله ورسوله، وتوافقت نفساهما الكريمتان على الحق، ومن ثَمَّ قامت أم أيوب مع زوجها، فتنحيا في جانبٍ من البيت، حتى لا يؤذيا رسولَ الله- صلى الله عليه وسلم- بالمشي فوق رأسه، ثم لما انكسرت جرَّةُ الماء وخشيا أن ينزل الماءُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال السقف قاما معًا يجففان الماء ويمسحان آثاره، مع العلم بأن الزوجين الكريمين قد جفَّفا هذا الماءَ بلحافهما الوحيد، ففي رواية أن أَبَا أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ: فَقُمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ بِقَطِيفَةٍ لَنَا مَا لَنَا لِحَافٍ غَيْرُهَا نُنَشِّفُ بِهَا الْمَاءَ تَخَوُّفًا أَنْ يَقْطُرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْهُ شَيْءٌ فَيُؤْذِيَهِ...
(5) التماس البركة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد رأينا أبا أيوب رضي الله عنه حين يرجع باقي الطعام الذي أكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن موضع أصابعه الشريفة، ثم يتتبع آثار تلك الأصابع فيأكل من نفس الموضع الذي أكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم التماسًا لبركته، ولم يكن أبو أيوب يفعل ذلك وحده، بل كان يفعل ذلك هو وأهلُ بيته، فقد أخرج الطبراني عن جَابِرِ بْنُ سَمُرَةَ، قَالَ: كَانَ يُهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقِصَاعُ وَهُوَ فِي دَارِ أَبِي أَيُّوبَ، فَكَانَ يَبْعَثُ إِلَيْهِ فَضْلَ مَا يَأْكُلُ، فَأَتَتْهُ قَصْعَةٌ فَأَرْسَلَ بِهَا كَمَا هِيَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ لأَهْلِهِ: لا تَأْكُلُوا حَتَّى أَعْلَمَ لِمَ تَرَكَهَا؟ قَالَ: فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَدَخَلَ، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا مِنْ عِنْدِكَ شَيْءٌ إِلا أَكَلْتَ مِنْهُ غَيْرَ هَذِهِ الْقَصْعَةِ لا أَدْرِي مَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: "كَأَنَّ فِيهَا ثُومٌ فَكَرِهْتُ رِيحَهُ، أَمَا إِنَّهُ لا بَأْسَ بِهِ، إِلا أَنِّي كَرِهْتُ رِيحَهُ"، قَالَ: فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ إِذًا، قَالَ: "فَأَنْتَ أَبْصَرُ"
(6) الإتباع الكامل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم: حتى في الأمور التي لم يوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين أن يتبعوه فيها، بل إن أبا أيوب جعل مشاعره تتجاوب مع هدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيحب ما أحب ويكره ما كره، فها هو النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول له عن الطعام الذي لم يأكل منه:"إِنَّ فِيهِ بصَلاً، فَكَرِهْتُ أَنْ آكُلَهُ مِنْ أَجْلِ الْمَلَكِ الَّذِي يَأْتِينِي وَأَمَّا أَنْتُمْ فَكُلُوهُ" فيقول أبو أيوب- رضي الله عنه-: فإني أكره ما تكره، أو ما كرهت.
الموقف الثاني: ضيافته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر
كان أبو أيوب موصوفًا بالكرم معروفًا بالجود، وربما كان يدخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من طعامه وحاجته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ربما أتاه فأكل عنده، فكان رضي الله عنه يُسَرُّ بذلك ويجتهد في إكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا أَخْرَجَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: مَا أَخْرَجَنِي إِلا مَا أَجِدُ مِنْ حَاقِّ (أي صادق) الْجُوعِ، قَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنِي غَيْرُهُ، فَبَيْنَمَا هُمَا كَذَلِكَ، إِذْ خَرَجَ عَلَيْهِمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مَا أَخْرَجَكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟" قَالا: وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنَا إِلا مَا نَجِدُ فِي بُطُونِنَا مِنْ حَاقِّ الْجُوعِ، قَالَ: "وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَخْرَجَنِي غَيْرُهُ، فَقُومَا"، فَانْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْا بَابَ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَّخِرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا أَوْ لَبَنًا، فَأَبْطَأَ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ، فَلَمْ يَأْتِ لِحِينِهِ، فَأَطْعَمَهُ لأَهْلِهِ، وَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلِهِ يَعْمَلُ فِيهِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْبَابِ خَرَجَتِ امْرَأَتُهُ، فَقَالَتْ: مَرْحَبًا بِنَبِيِّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَبِمَنْ مَعَهُ، فَقَالَ لَهَا نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: "فَأَيْنَ أَبُو أَيُّوبَ؟" فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَعْمَلُ فِي نَخْلٍ لَهُ، فَجَاءَ يَشْتَدُّ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِنَبِيِّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَبِمَنْ مَعَهُ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَيْسَ بِالْحِينِ الَّذِي كُنْتَ تَجِيءُ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقْتَ" قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَقَطَعَ عِذْقًا مِنَ النَّخْلِ فِيهِ مِنْ كُلِّ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ وَالْبُسْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَرَدْت إِلَى هَذَا، أَلا جَنَيْتَ لَنَا مِنْ تَمْرِهِ؟" فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَحْبَبْتُ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ تَمْرِهِ وَرُطَبِهِ وَبُسْرِهِ، وَلأَذْبَحَنَّ لَكَ مَعَ هَذَا، قَالَ: "إِنْ ذَبَحْتَ، فَلا تَذْبَحَنَّ ذَاتَ دَرٍّ" فَأَخَذَ عَنَاقًا أَوْ جَدْيًا فَذَبَحَهُ، وَقَالَ لامْرَأَتِهِ: اخْبِزِي وَاعْجِنِي لَنَا، وَأَنْتِ أَعْلَمُ بِالْخَبْزِ، فَأَخَذَ الْجَدْيَ، فَطَبَخَهُ وَشَوَى نِصْفَهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَ (أي نضج) الطَّعَامُ، وُضِعَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، فَأَخَذَ مِنَ الْجَدْيِ، فَجَعَلَهُ فِي رَغِيفٍ، فَقَالَ: "يَا أَبَا أَيُّوبَ، أَبْلِغْ بِهَذَا فَاطِمَةَ، فَإِنَّهَا لَمْ تُصِبْ مِثْلَ هَذَا مُنْذُ أَيَّامٍ" فَذَهَبَ بِهِ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى فَاطِمَةَ، فَلَمَّا أَكَلُوا وَشَبِعُوا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "خُبْزٌ وَلَحْمٌ وَتَمْرٌ وَبُسْرٌ وَرُطَبٌ- وَدَمِعَتْ عَيْنَاهُ- وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ النَّعِيمُ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلا: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ فَهَذَا النَّعِيمُ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: "بَلْ إِذَا أَصَبْتُمْ مِثْلَ هَذَا، فَضَرَبْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ، فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ، وَإِذَا شَبِعْتُمْ، فَقُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ أَشْبَعَنَا، وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا وَأَفْضَلَ، فَإِنَّ هَذَا كَفَافٌ بِهَا"، فَلَمَّا نَهَضَ، قَالَ لأَبِي أَيُّوبَ: ائْتِنَا غَدًا، وَكَانَ لا يَأْتِي إِلَيْهِ أَحَدٌ مَعْرُوفًا إِلا أَحَبَّ أَنْ يُجَازِيَهُ، قَالَ: وَإِنَّ أَبَا أَيُّوبَ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَكَ أَنْ تَأْتِيَهَ غَدًا، فَأَتَاهُ مِنَ الْغَدِ، فَأَعْطَاهُ وَلِيدَتَهُ (أي جاريته التي تخدمه) فَقَالَ: "يَا أَبَا أَيُّوبَ، اسْتَوْصِ بِهَا خَيْرًا، فَإِنَّا لَمْ نَرَ إِلا خَيْرًا مَا دَامَتْ عِنْدَنَا"، فَلَمَّا جَاءَ بِهَا أَبُو أَيُّوبَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا أَجِدُ لَوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَيْرًا مِنْ أَنْ أَعْتِقَهَا. فَأَعْتَقَهَا.
يستفاد من هذا الموقف المفاهيم التربوية التالية:
(1) تكافل الصحابة رضي الله عنهم فيما بينهم وبخاصة في أوقات الشدة والحاجة: وقد ظهر ذلك واضحًا من صنيع أبي أيوب رضي الله عنه مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين أخرجهما الجوع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو أيوب: مرحبًا بنبي الله صلى الله عليه وسلم وبمَن معه، ثم مضى فجاء بالتمر، ثم ذبح العناق وأمر امرأته فخبزت، وأحسن إلى ضيوفه رضي الله عنهم أجمعين.
(2) منزلة أبي أيوب رضي الله عنه الخاصة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: حيث كان يدخر لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- طعامًا أو لبنًا؛ إكرامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حاجة صاحبيه الكريمين إلى الطعام سار بهما إلى دار أبي أيوب- رضي الله عنه- دون غيره؛ لما لأبي أيوب في نفسه الشريفة من منزلة خاصة، بل إنه صلى الله عليه وسلم وضع من اللحم في رغيفٍ وبعث به أبا أيوب إلى فاطمة رضي الله عنها.
(3) تعاون الزوجين في البيت وتوافقهما على خلق الكرم والإحسان: فما إن رأت أم أيوب النبي- صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه قادمين حتى استبشرت وحيَّت ورحبت بالضيف الكرام، ثم جعلت تعين زوجها على إكرام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصحبه، وفيما اشتغل أبو أيوب بالذبح والطبخ كانت أم أيوب رضي الله عنها مشتغلة بالعجن والخبز، حتى ينتهيا من إعداد النزل في أقرب وقت.
ومن المهم أن يتنبه الرجال- خصوصًا في مجتمعاتنا العربية- إلى ما فعله أبو أيوب؛ إذ لم يشغل امرأته بكل واجباتِ الإعداد، بل كلفها بما تُحسنه ولا يشق عليها، وقام هو بما يُمكنه، فقال لها: اعجني لنا وأنتِ أعلمُ بالخبز، وأخذ هو الجدي فطبخه وشوى نصفه، وتعاونا بذلك على إكرام الضيوف.
(4) مكافأة صانع المعروف على صنيعه: هذه قيمة إسلامية كريمة وهدي نبوي عظيم، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ".
وعملاً بهذا الهدي الكريم فقد كافأ النبي- صلى الله عليه وسلم- أبا أيوب رضي الله عنه على صنيعه الطيب الكريم بأن أعطاه الجارية التي كانت تخدمه صلى الله عليه وسلم، وأوصاه بها خيرًا.
(5) دقة فهم أبي أيوب وعمق وعيه وحسن تطبيقه لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذْ لم يجد في نفسه وجهًا لتفسير وصية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إياه بالجارية خيرًا من إعتاقها؛ إكرامًا وتنفيذًا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك غاية كمال الأدب والحب والطاعة. رضي الله عن سيدنا أبي أيوب وألحقنا به في الصالحين.
الموقف الثالث: موقف أبي أيوب وأم أيوب من قصة الإفك
عَن مُحَمَّد بْن إِسْحَاق، عَن أَبِيهِ، قال ابن إسحاق: حدثني أبي إسحاق بن يسار عَن بَعْض رجال بَنِي النجار أَن أبا أيوب خَالِد بْن زَيْد- رضي الله عنه- قَالَتْ لَهُ امرأته أمُّ أيوب: يا أبا أيوب، أَلا تسمع مَا يَقُول النَّاس فِي عَائِشَة؟ قَالَ: بلى وَذَلِكَ الكذب، أكنتِ يا أمَّ أيوب فاعلة ذَلِكَ ؟ قَالَتْ: لا والله مَا كنت لأفعله، قَالَ: فعائشة والله خيرٌ منكِ
وعن بعض الأنصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا، فقال لها: يا أم أيوب أكنتِ تفعلين ذاك؟ فقالت: لا والله. فقال: فعائشة والله خير منكِ وأطيب. فأنزل الله عز وجل ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ (النور: 12) يعني قول أبي أيوب لأم أيوب، وكان أبو أيوب قال لها: إن الذين قالوا لها هو إفك.
يستفاد من هذا الموقف المفاهيم التربوية التالية:
(1) معرفة أبي أيوب وأم أيوب الأدب الواجب نحو بيت النبوة الكريم: لمَّا كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم هن أمهات المؤمنين فقد عرف الزوجان الكريمان أبو أيوب وأم أيوب رضي الله عنهما ما ينبغي أن يكون عليه يقين المؤمن نحو أمه، ونحو بيت النبوة الطاهر، وقد نقل عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في معنى ﴿ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ قال: ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه. وهذا الذي دلَّ الحديث على أنه كان يقينًا في نفس أبي أيوب وأم أيوب، والآية بذلك شاهدة على وصفهما بالإيمان.
وقيل: المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان رضي الله عنهما أبعد، وهذا النظر السديد هو الذي وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته. وهذا هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم.
(2) واجب المؤمن نفي شائعة الشر وقالة السوء عن المؤمنين: قوله تعالى ﴿بِأَنفُسِهِمْ﴾ معناه بإخوانهم، فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلاً يقذف أحدًا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه، مثلما فعل أبو أيوب وأم أيوب رضي الله عنهما، وتوعَّد سبحانه مَن ترك ذلك ومَن نقله.
وقد عدل سبحانه عن الخطاب ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ إلى الغيبة ﴿ظَنَّ المُؤْمِنُونَ﴾ وعن الضمير إلى الظاهر؛ ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتضٍ أن لا يصدِّقَ مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن. وتقديم الظرف وهو ﴿إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ على عامله وهو ﴿قلتم﴾ للاهتمام بمدلول ذلك الظرف؛ تنبيهًا على أنه كان من واجبهم أن يطرق ظنُّ الخير قلوبهم بمجرد سماع الخبر، وأن يتبرؤوا من الخوض فيه بفور سماعه.
وفي هذا تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالةً في أخيه أن يبني الأمر فيها على الظن الحسن لا على الشك، وأن يقول بملء فيه بناءً على ظنه بالمؤمن الخير: ﴿هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ هكذا بلفظ المصرح ببراءة ساحته كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال.
وهذا من الأدب الحسن الذي قلَّ القائم به والحافظ له، وليتك تجد مَن يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بإخوته وأخواته!.
الموقف الرابع: النبي صلى الله عليه وسلم يرفض طلاق أم أيوب وأبو أيوب يمتثل
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ رضي الله عنه طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ طَلاقَ أُمِّ أَيُّوبَ كَانَ حُوبًا" قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: الْحُوبُ: الإِثْمُ.
وعن أنس- رضي الله عنه- أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب، فاستأذن النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: "إِنَّ طَلاقَ أُمِّ أَيُّوبَ لَحُوبٌ" فأمسكها
يُستفاد من هذا الموقف المفاهيم التربوية التالية:
(1) حفظ الجميل بين الزوجين وعدم استعجال الطلاق: قد تتعرض الحياة الزوجية لبعض الهزَّات المفاجئة نتيجةً لأي سببٍ قد يعترضها، لكن الإسلام يُربي المؤمن والمؤمنة على حفظ كل منهما الجميلَ للآخر، وعلى وجوب ذكر الحسنات قبل البناء على السيئات، فتلك هي العشرة بالمعروف التي أمر الله بها ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (النساء: 19).
ومن ثم فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- رفض أن يأذن لأبي أيوب رضي الله عنه في طلاق أم أيوب- رضي الله عنها- بعد تلك الحياة الحافلة بالفضائل والجلائل والمشاركة في كل أسباب البر والخير، ووصف ذلك بأنه حُوبٌ أي إثم. وهذا تقديرٌ منه صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة الصالحة ولمواقفها الجليلة، التي أسلفنا بعضها من قبل. فهل يعي المسلمون هذا الدرس النبوي العظيم!
(2) الطاعة الكاملة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتقديم رأيه على هوى النفس: لقد ضرب أبو أيوب- رضي الله عنه- للمؤمنين نموذجًا عمليًّا فذًّا في كيفية المتابعة الصحيحة لسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فهو لم يبادر إلى تطليق زوجه باعتبار ذلك شأنًا شخصيًّا، بل ذهب يستأذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وفي هذا إشارة إلى أن المسلم ينبغي له قبل أن يُقْدِم على أي تصرفٍ أن يعرف حكم الله ورسوله فيما يقدم عليه، وما إذا كان ذلك مما يحبه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أو يبغضه.
ولم يكن ذلك من أبي أيوب- رضي الله عنه- مجرد استشارة غير ملزمة، بل إنه تقيد بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمسك أم أيوب فلم يطلقها، وترك رغبته في طلاقها نزولاً على رغبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في إمساكها؛ وذلك تمام الأدب اللائق بالمسلم والمسلم ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا﴾ (الأحزاب36).
رضي الله عن أبي أيوب وأم أيوب وألحقنا بهم على خير وجه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
______________________________
بقلم : د. عبد الرحمن البر
اسمه ونسبه وكنيته: هو الصحابي الجليل والسيد النبيل أبو أيوب خالد بن زيد بن كليب بن ثعلبة بن عبد عوف بن غنم بن مالك بن النجار بن ثعلبة بن الخزرج، النجاري الخزرجي الأنصاري البدري.
إسلامه: أسلم أبو أيوب رضي الله عنه مبكرًا مع أوائل الأنصار الذين أسلموا، وسمَّاه عروة بن الزبير فيمن شهد بيعة العقبة مع السبعين الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم.
نزول النبي- صلى الله عليه وسلم- عليه: كان بنو النجار من الأنصار أخوال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، إذ كانت أم جده عبد المطلب منهم، ولهذا فإنه- صلى الله عليه وسلم- حين أراد النزول في المدينة في هجرته المباركة رغب في إكرامهم بالنزول عليهم، وكان أبو أيوب أكثرَهم حظوةً إذ نزل رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بيته، حتى بنى المسجدَ في أرض الغلامين النجاريين، وابتنى بجواره مسكنًا لزوجه زمعة- رضي الله عنها-، وقد أصر بنو النجار أن يتحملوا هم ثَمنَ المسجد، كما جاء في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، وذكر الزبير بن بكار أن الذي أرضى الغلامين بالثمن هو أبو أيوب رضي الله عنه.
وقد ورد أن الأنصار اقترعت أيهم يؤوي رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فقرعهم أبو أيوب، فآوى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا مما جعل الله من الفضل له رضي الله عنه.
تمسكه والتزامه السنة: كان أبو أيوب- رضي الله عنه- حريصًا كل الحرص على متابعة النبي- صلى الله عليه وسلم- في كل شيء، حتى كان يتتبع موضع أصابع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في الطعام، وهذا مؤشر على إتباعه- رضي الله عنه- لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما هو أهم من ذلك من أمور الدين وأحكام الشريعة، ومن ذلك أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يداوم على صلاةٍ عند زوال الشمس فداوم هو عليها، كما في الحديث عند الإمام أحمد.
فهمه للقرآن وعلمه بأسباب النزول: كان أبو أيوب- رضي الله عنه- مدركًا لمعاني القرآن، عارفًا بأسباب نزوله، يضع كل آية موضعها ويفهمها على وجهها الصحيح، من غير تعسفٍ أو تكلف، ولهذا لما سمع بعض الناس يفهمون بعض الآيات على غير وجهها بادر- رضي الله عنه- بإيقافهم على معناها الصحيح، فعن أسلم أبي عمران التُّجِيبي مولى تُجِيب قَالَ: كُنَّا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّامِ فَضَالَةُ بْنُ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَعَلَى أَهْلِ مِصْرَ عُقْبَةُ بْنُ عَامِرٍ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا صَفٌّ عَظِيمٌ مِنَ الرُّومِ، وَخَرَجَ مِنَّا صَفٌّ عَظِيمٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَحَمَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى صَفِّ الرُّومِ فَقَتَل فِيهِمْ، ثُمَّ جَاءَ مُقْبِلاً، فَصَاحَ النَّاسُ فَقَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ، أَلْقَى بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، فَقَامَ أَبُو أَيُّوبَ فقال: "يَأَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الآيَةَ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآَيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الأَنْصَارِ، لَمَّا أَعَزَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ دِينَهُ، وَكَثُرَ نَاصِرُوهُ، قُلْنَا بَيْنَنَا سِرًّا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ أَمْوَالَنَا قَدْ ضَاعَتْ، وَلَوْ أَقَمْنَا فِيهَا، فَأَصْلَحْنَا مِنْهَا مَا قَدْ ضَاعَ مِنْهَا! فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هذه الآيةَ يَرُدُّ عَلَيْنَا مَا هَمَمْنَا بِهِ فِي أَنْفُسِنَا أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا، فَنُصْلِحَ مَا قَدْ ضَاعَ مِنْهَا، فَكَانَتِ التَّهْلُكَةُ الَّتِي أَرَدْنَا أَنْ نَفْعَلَ، وَأَمَرَنَا بِالْغَزْوِ". فَمَا زَالَ أَبُو أَيُّوبَ يَغْزُو حَتَّى قَبَضَهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ.
عدد مروياته: يعد أبو أيوب- رضي الله عنه- من فقهاء الصحابة وعلمائهم، ومن المتوسطين في الرواية الذين جاوز عدد أحاديثهم المائة، فقد بلغت عدة أحاديثه في مسند بقي بن مخلد (155)، وفي مسند أحمد (101)، واتفق له الشيخان على (7) أحاديث، وانفرد البخاري بحديثٍ واحد، ومسلم بخمسة أحاديث.
مرضه ووفاته وطلبه أن يُدفن في أرض العدو: خرج أبو أيوب- رضي الله عنه- في غزوة القسطنطينية سنة خمسين أو اثنتين وخمسين، في خلافة معاوية- رضي الله عنه-، فكتب الله له الوفاة غازيًا في سبيل الله، ودُفن هناك تحت سور القسطنطينية.
عن محمد بن سيرين قال: شهد أبو أيوب بدرًا، ثم لم يتخلف عن غزاةٍ للمسلمين إلا هو في أخرى، إلا عامًا واحدًا، فإنه استُعْمِل على الجيش رجلٌ شابٌّ، فقعد ذلك العام، فجعل بعد ذاك العام يتلهف ويقول: وما عليَّ مَن استُعمل عليَّ! وما عليَّ مَن استُعمل عليّ! وما عليَّ مَن استُعمل عليَّ! قال: فمرض، وعلى الجيش يزيد بن معاوية، فأتاه يعوده فقال: حاجتَك. قال: نعم حاجتي إذا أنا مِتُّ فاركب بي ثم سُغْ بي في أرض العدو ما وجدت مَسَاغًا، فإذا لم تجد مَسَاغًا فادفني ثم ارجع. قال: فلما مات ركب به، ثم سار به في أرض العدو، وما وجد مساغًا، ثم دفنه ورجع. قال: وكان أبو أيوب رضي الله عنه يقول: قال الله عزَّ وجل ﴿انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالاً﴾ (التوبة: من الآية 41) فلا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلاً.
وهكذا لقي أبو أيوب- رضي الله عنه- ربَّه راضيًا مرضيًا في ميدان الجهاد الذي أفنى فيه عمره، وأبلى فيه أحسن البلاء شابًّا وكهلاً وشيخًا، ليكون مثلاً وقدوةً لكل مسلم يرجو الله والدار الآخرة، رضي الله عنه وألحقنا به على خير.
الموقف الأول: أدبه مع النبي- صلى الله عليه وسلم- حين نزل عليه
كان أبو أيوب- رضي الله عنه- عظيم الأدب في ضيافته لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، شديد الحرص على راحةِ النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى التماسِ بركته- صلى الله عليه وسلم-، وكذلك كانت زوجه أم أيوب- رضي الله عنها-، وقد ابتدأت خدمتهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أول يومٍ نزل عليهم ضيفاً كريمًا.
فعَنْ أَبِي أَيُّوبَ- رضي الله عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَلَيْهِ، فَنَزَلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي السُّفْلِ وَأَبُو أَيُّوبَ فِي الْعِلْوِ، قَالَ: فَانْتَبَهَ أَبُو أَيُّوبَ لَيْلَةً، فَقَالَ: نَمْشِي فَوْقَ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم! فَتَنَحَّوْا فَبَاتُوا فِي جَانِبٍ، ثُمَّ قَالَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "السُّفْلُ أَرْفَقُ"، فَقَالَ: لاَ أَعْلُو سَقِيفَةً أَنْتَ تَحْتَهَا، فَتَحَوَّلَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- فِي الْعُلُوِّ، وَأَبُو أَيُّوبَ فِي السُّفْلِ، فَكَانَ يَصْنَعُ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- طَعَامًا، فَإِذَا جِيءَ بِهِ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِهِ، فَيَتَتَبَّعُ مَوْضِعَ أَصَابِعِهِ، فَصَنَعَ لَهُ طَعَامًا فِيهِ ثُومٌ، فَلَمَّا رُدَّ إِلَيْهِ سَأَلَ عَنْ مَوْضِعِ أَصَابِعِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم-، فَقِيلَ لَهُ: لَمْ يَأْكُلْ، فَفَزِعَ، وَصَعِدَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: أَحَرَامٌ هُوَ؟، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لا، وَلَكِنِّي أَكْرَهُهُ"، قَالَ: فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ، أَوْ مَا كَرِهْتَ. قَالَ: وَكَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُؤْتَى أي تأتيه الملائكة والوحي، كما ورد ذلك صريحًا في بعض الروايات.
ويبين- رضي الله عنه- في روايةٍ أخرى رضي الله عنه جانبًا من هذا الحرص الذي دفعه إلى هذا الفعل، فيقول- رضي الله عنه- إَِنَّ نَبيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ فِي بيْتِنَا الأَسْفَلِ، وَكُنْتُ فِي الْغُرْفَةِ فَأُهْرِيقَ مَاءٌ فِي الْغُرْفَةِ، فَقُمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوب بقَطِيفَةٍ لَنَا نَتْبعُ الْمَاءَ؛ شَفَقَةً أَنْ يَخْلُصَ الْمَاءُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-، فَنَزَلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَأَنَا مُشْفِقٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ يَنْبغِي أَنْ نَكُونَ فَوْقَكَ، انْتَقِلْ إِلَى الْغُرْفَةِ، فَأَمَرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بمَتَاعِهِ فَنُقِلَ، وَمَتَاعُهُ قَلِيلٌ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنْتَ تُرْسِلُ إِلَيَّ بالطَّعَامِ، فَأَنْظُرُ فَإِذَا رَأَيْتُ أَثَرَ أَصَابعِكَ وَضَعْتُ يَدِي فِيهِ، حَتَّى إِذَا كَانَ هَذَا الطَّعَامُ الَّذِي أَرْسَلْتَ بهِ إِلَيَّ فَنَظَرْتُ فِيهِ، فَلَمْ أَرَ فِيهِ أَثَرَ أَصَابعِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "أَجَلْ، إِنَّ فِيهِ بصَلاً، فَكَرِهْتُ أَنْ آكُلَهُ مِنْ أَجْلِ الْمَلَكِ الَّذِي يَأْتِينِي، وَأَمَّا أَنْتُمْ فَكُلُوهُ".
يُستفاد من هذا الموقف المفاهيم التربوية التالية:
(1) فضيلة أبي أيوب وأم أيوب رضي الله عنهما: حيث جعل الله بيتهما أولَ منزلٍ لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- في المدينة المنورة، وقد وصف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم البيت بأنه من بيوت أهله، ففي صحيح البخاري عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لما بركت ناقتُه يوم أن دخل المدينة: "أَيُّ بُيُوتِ أَهْلِنَا أَقْرَبُ؟" فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ: أَنَا يَا نَبِيَّ اللَّهِ، هَذِهِ دَارِي وَهَذَا بَابِي. قَالَ: "فَانْطَلِقْ فَهَيِّئْ لَنَا مَقِيلاً". قَالَ: قُومَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ...الحديث.
فحازت أسرة أبي أيوب رضي الله عنه هذه المنزلة الرفيعة والمكانة العالية ببركة هذه الضيافة الكريمة، وكانت خير مضيف لخير ضيف.
ولقد عرف خيارُ الصحابة هذه المنقبة وحفظوها لأبي أيوب- رضي الله عنه-، حتى تَسَنَّى لابن عباس رضي الله عنه أن يُكافئه ببعض ما يستحق، ويبقى له كريم الجزاء عند الله في دار الخلد، فعَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ، أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ الأَنْصَارِيَّ قَدِمَ الْبَصْرَةَ، فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، فَفَرَّغَ لَهُ بَيْتَهُ، وَقَالَ: لأَصْنَعَنَّ بِكَ كَمَا صَنَعْتَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ: كَمْ عَلَيْكَ مِنَ الدَّيْنِ؟ قَالَ: عِشْرُونَ أَلْفًا، فَأَعْطَاهُ أَرْبَعِينَ أَلْفًا وَعِشْرِينَ مَمْلُوكًا، وَقَالَ: لَكَ مَا فِي الْبَيْتِ كُلُّهُ.
(2) الأدب العالي الذي تمتع به أبو أيوب وأم أيوب رضي الله عنهما: فإذا كان النبي- صلى الله عليه وسلم- قد اختار الطابق الأسفل من بيت أبي أيوب؛ ليكون ذلك أرفقَ بأبي أيوب رضي الله عنه، حيث يغشى النبيَّ عددٌ كثيرٌ من أصحابه، فإن نفسيهما الكريمتين لم تقبلا بالعلو فوق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يَكُفَّ أبو أيوب وأم أيوب رضي الله عنهما عن طلب راحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى منعهما ذلك النومَ، ودفعهما إلى الرفق الشديد عند الحركة، ثم لم تَطِبْ نفوسهما إلا بانتقال النبي- صلى الله عليه وسلم- إلى الأعلى.
وقد جاء في رواية عند الطبراني: فَلَمَّا أَمْسَى وَبَاتَ، فَجَعَلَ أَبُو أَيُّوبَ يَذْكُرُ أَنَّهُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَسْفَلَ مِنْهُ، وَهُوَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَحْيِ، فَجَعَلَ أَبُو أَيُّوبَ لا يَنَامُ يُحَاذِرُ أَنْ يَتَنَاثَرَ عَلَيْهِ الْغُبَارُ ويَتَحَرَّكُ فَيُؤْذِيَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا جَعَلْتُ اللَّيْلَةَ فِيهَا غَمْضًا أَنَا وَلا أُمُّ أَيُّوبَ، قَالَ: "وَمِمَّ ذَاكَ يَا أَبَا أَيُّوبَ؟" قَالَ: ذَكَرْتُ أَنِّي عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ أَنْتَ أَسْفَلَ مِنِّي، فَأَتَحَرَّكُ فَيَتَنَاثَرُ عَلَيْكَ الْغُبَارُ، ويُؤْذِيكَ تَحْرِيكِي، وَأَنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْوَحْيِ... الحديث.
وإذا كان هذا الصحابي الجليل يستعظم أن يعلوَ النبي- صلى الله عليه وسلم- في السكن، فكيف بمَن يتقدَّم على رسول الله في أحكامه، ويقدم رأيه وهواه على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟.
(3) الكرم السابغ الذي تمتع به أبو أيوب وأم أيوب رضي الله عنهما: فقد التزما بتقديم الطعام يوميًّا للنبي الكريم- صلى الله عليه وسلم- سواء مما صنعته أم أيوب أو مما كان الصحابة يهدونه لرسول الله- صلى الله عليه وسلم-، ويبدو أنهم كانوا يتكلفون صنع الطعام للنبي صلى الله عليه وسلم ولمَن ينزل عليه من أصحابه، فقد أخرج الترمذي عن أُمِّ أَيُّوبَ رضي الله عنها، أَنّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَزَلَ عَلَيْهِمْ فَتَكَلَّفُوا لَهُ طَعَامًا فِيهِ مِنْ بَعْضِ هَذِهِ الْبُقُولِ فَكَرِهَ أَكْلَهُ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: "كُلُوهُ فَإِنِّي لَسْتُ كَأَحَدِكُمْ إِنِّي أَخَافُ أَنْ أُوذِيَ صَاحِبِي".
(4) تعاون أبي أيوب وزوجه أم أيوب في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم: فقد جمعهما طريق واحد، واجتمع قلباهما على حبِّ الله ورسوله، وتوافقت نفساهما الكريمتان على الحق، ومن ثَمَّ قامت أم أيوب مع زوجها، فتنحيا في جانبٍ من البيت، حتى لا يؤذيا رسولَ الله- صلى الله عليه وسلم- بالمشي فوق رأسه، ثم لما انكسرت جرَّةُ الماء وخشيا أن ينزل الماءُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال السقف قاما معًا يجففان الماء ويمسحان آثاره، مع العلم بأن الزوجين الكريمين قد جفَّفا هذا الماءَ بلحافهما الوحيد، ففي رواية أن أَبَا أَيُّوبَ رضي الله عنه قَالَ: فَقُمْتُ أَنَا وَأُمُّ أَيُّوبَ بِقَطِيفَةٍ لَنَا مَا لَنَا لِحَافٍ غَيْرُهَا نُنَشِّفُ بِهَا الْمَاءَ تَخَوُّفًا أَنْ يَقْطُرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- مِنْهُ شَيْءٌ فَيُؤْذِيَهِ...
(5) التماس البركة بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد رأينا أبا أيوب رضي الله عنه حين يرجع باقي الطعام الذي أكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن موضع أصابعه الشريفة، ثم يتتبع آثار تلك الأصابع فيأكل من نفس الموضع الذي أكل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم التماسًا لبركته، ولم يكن أبو أيوب يفعل ذلك وحده، بل كان يفعل ذلك هو وأهلُ بيته، فقد أخرج الطبراني عن جَابِرِ بْنُ سَمُرَةَ، قَالَ: كَانَ يُهْدَى لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْقِصَاعُ وَهُوَ فِي دَارِ أَبِي أَيُّوبَ، فَكَانَ يَبْعَثُ إِلَيْهِ فَضْلَ مَا يَأْكُلُ، فَأَتَتْهُ قَصْعَةٌ فَأَرْسَلَ بِهَا كَمَا هِيَ لَمْ يَنْقُصْ مِنْهَا شَيْءٌ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ لأَهْلِهِ: لا تَأْكُلُوا حَتَّى أَعْلَمَ لِمَ تَرَكَهَا؟ قَالَ: فَاسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ فَدَخَلَ، فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا مِنْ عِنْدِكَ شَيْءٌ إِلا أَكَلْتَ مِنْهُ غَيْرَ هَذِهِ الْقَصْعَةِ لا أَدْرِي مَا شَأْنُهَا؟ قَالَ: "كَأَنَّ فِيهَا ثُومٌ فَكَرِهْتُ رِيحَهُ، أَمَا إِنَّهُ لا بَأْسَ بِهِ، إِلا أَنِّي كَرِهْتُ رِيحَهُ"، قَالَ: فَإِنِّي أَكْرَهُ مَا تَكْرَهُ إِذًا، قَالَ: "فَأَنْتَ أَبْصَرُ"
(6) الإتباع الكامل لرسول الله- صلى الله عليه وسلم: حتى في الأمور التي لم يوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين أن يتبعوه فيها، بل إن أبا أيوب جعل مشاعره تتجاوب مع هدي رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فيحب ما أحب ويكره ما كره، فها هو النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول له عن الطعام الذي لم يأكل منه:"إِنَّ فِيهِ بصَلاً، فَكَرِهْتُ أَنْ آكُلَهُ مِنْ أَجْلِ الْمَلَكِ الَّذِي يَأْتِينِي وَأَمَّا أَنْتُمْ فَكُلُوهُ" فيقول أبو أيوب- رضي الله عنه-: فإني أكره ما تكره، أو ما كرهت.
الموقف الثاني: ضيافته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر
كان أبو أيوب موصوفًا بالكرم معروفًا بالجود، وربما كان يدخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم من طعامه وحاجته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ربما أتاه فأكل عنده، فكان رضي الله عنه يُسَرُّ بذلك ويجتهد في إكرام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فعَنِ ابْنِ عَبَّاس رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ بِالْهَاجِرَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ، فَسَمِعَ بِذَلِكَ عُمَرُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا أَخْرَجَكَ هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: مَا أَخْرَجَنِي إِلا مَا أَجِدُ مِنْ حَاقِّ (أي صادق) الْجُوعِ، قَالَ: وَأَنَا وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنِي غَيْرُهُ، فَبَيْنَمَا هُمَا كَذَلِكَ، إِذْ خَرَجَ عَلَيْهِمَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: "مَا أَخْرَجَكُمَا هَذِهِ السَّاعَةَ؟" قَالا: وَاللَّهِ مَا أَخْرَجَنَا إِلا مَا نَجِدُ فِي بُطُونِنَا مِنْ حَاقِّ الْجُوعِ، قَالَ: "وَأَنَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَخْرَجَنِي غَيْرُهُ، فَقُومَا"، فَانْطَلَقُوا حَتَّى أَتَوْا بَابَ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ أَبُو أَيُّوبَ يَدَّخِرُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم طَعَامًا أَوْ لَبَنًا، فَأَبْطَأَ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ، فَلَمْ يَأْتِ لِحِينِهِ، فَأَطْعَمَهُ لأَهْلِهِ، وَانْطَلَقَ إِلَى نَخْلِهِ يَعْمَلُ فِيهِ، فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْبَابِ خَرَجَتِ امْرَأَتُهُ، فَقَالَتْ: مَرْحَبًا بِنَبِيِّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَبِمَنْ مَعَهُ، فَقَالَ لَهَا نَبِيُّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: "فَأَيْنَ أَبُو أَيُّوبَ؟" فَسَمِعَهُ وَهُوَ يَعْمَلُ فِي نَخْلٍ لَهُ، فَجَاءَ يَشْتَدُّ، فَقَالَ: مَرْحَبًا بِنَبِيِّ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- وَبِمَنْ مَعَهُ، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، لَيْسَ بِالْحِينِ الَّذِي كُنْتَ تَجِيءُ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "صَدَقْتَ" قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَقَطَعَ عِذْقًا مِنَ النَّخْلِ فِيهِ مِنْ كُلِّ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ وَالْبُسْرِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَرَدْت إِلَى هَذَا، أَلا جَنَيْتَ لَنَا مِنْ تَمْرِهِ؟" فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَحْبَبْتُ أَنْ تَأْكُلَ مِنْ تَمْرِهِ وَرُطَبِهِ وَبُسْرِهِ، وَلأَذْبَحَنَّ لَكَ مَعَ هَذَا، قَالَ: "إِنْ ذَبَحْتَ، فَلا تَذْبَحَنَّ ذَاتَ دَرٍّ" فَأَخَذَ عَنَاقًا أَوْ جَدْيًا فَذَبَحَهُ، وَقَالَ لامْرَأَتِهِ: اخْبِزِي وَاعْجِنِي لَنَا، وَأَنْتِ أَعْلَمُ بِالْخَبْزِ، فَأَخَذَ الْجَدْيَ، فَطَبَخَهُ وَشَوَى نِصْفَهُ، فَلَمَّا أَدْرَكَ (أي نضج) الطَّعَامُ، وُضِعَ بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابِهِ، فَأَخَذَ مِنَ الْجَدْيِ، فَجَعَلَهُ فِي رَغِيفٍ، فَقَالَ: "يَا أَبَا أَيُّوبَ، أَبْلِغْ بِهَذَا فَاطِمَةَ، فَإِنَّهَا لَمْ تُصِبْ مِثْلَ هَذَا مُنْذُ أَيَّامٍ" فَذَهَبَ بِهِ أَبُو أَيُّوبَ إِلَى فَاطِمَةَ، فَلَمَّا أَكَلُوا وَشَبِعُوا، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "خُبْزٌ وَلَحْمٌ وَتَمْرٌ وَبُسْرٌ وَرُطَبٌ- وَدَمِعَتْ عَيْنَاهُ- وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ النَّعِيمُ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَلا: ﴿ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ فَهَذَا النَّعِيمُ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"، فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: "بَلْ إِذَا أَصَبْتُمْ مِثْلَ هَذَا، فَضَرَبْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ، فَقُولُوا: بِسْمِ اللَّهِ، وَإِذَا شَبِعْتُمْ، فَقُولُوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هُوَ أَشْبَعَنَا، وَأَنْعَمَ عَلَيْنَا وَأَفْضَلَ، فَإِنَّ هَذَا كَفَافٌ بِهَا"، فَلَمَّا نَهَضَ، قَالَ لأَبِي أَيُّوبَ: ائْتِنَا غَدًا، وَكَانَ لا يَأْتِي إِلَيْهِ أَحَدٌ مَعْرُوفًا إِلا أَحَبَّ أَنْ يُجَازِيَهُ، قَالَ: وَإِنَّ أَبَا أَيُّوبَ لَمْ يَسْمَعْ ذَلِكَ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَمَرَكَ أَنْ تَأْتِيَهَ غَدًا، فَأَتَاهُ مِنَ الْغَدِ، فَأَعْطَاهُ وَلِيدَتَهُ (أي جاريته التي تخدمه) فَقَالَ: "يَا أَبَا أَيُّوبَ، اسْتَوْصِ بِهَا خَيْرًا، فَإِنَّا لَمْ نَرَ إِلا خَيْرًا مَا دَامَتْ عِنْدَنَا"، فَلَمَّا جَاءَ بِهَا أَبُو أَيُّوبَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لا أَجِدُ لَوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- خَيْرًا مِنْ أَنْ أَعْتِقَهَا. فَأَعْتَقَهَا.
يستفاد من هذا الموقف المفاهيم التربوية التالية:
(1) تكافل الصحابة رضي الله عنهم فيما بينهم وبخاصة في أوقات الشدة والحاجة: وقد ظهر ذلك واضحًا من صنيع أبي أيوب رضي الله عنه مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حين أخرجهما الجوع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو أيوب: مرحبًا بنبي الله صلى الله عليه وسلم وبمَن معه، ثم مضى فجاء بالتمر، ثم ذبح العناق وأمر امرأته فخبزت، وأحسن إلى ضيوفه رضي الله عنهم أجمعين.
(2) منزلة أبي أيوب رضي الله عنه الخاصة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم: حيث كان يدخر لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- طعامًا أو لبنًا؛ إكرامًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حاجة صاحبيه الكريمين إلى الطعام سار بهما إلى دار أبي أيوب- رضي الله عنه- دون غيره؛ لما لأبي أيوب في نفسه الشريفة من منزلة خاصة، بل إنه صلى الله عليه وسلم وضع من اللحم في رغيفٍ وبعث به أبا أيوب إلى فاطمة رضي الله عنها.
(3) تعاون الزوجين في البيت وتوافقهما على خلق الكرم والإحسان: فما إن رأت أم أيوب النبي- صلى الله عليه وسلم- وصاحبيه قادمين حتى استبشرت وحيَّت ورحبت بالضيف الكرام، ثم جعلت تعين زوجها على إكرام رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وصحبه، وفيما اشتغل أبو أيوب بالذبح والطبخ كانت أم أيوب رضي الله عنها مشتغلة بالعجن والخبز، حتى ينتهيا من إعداد النزل في أقرب وقت.
ومن المهم أن يتنبه الرجال- خصوصًا في مجتمعاتنا العربية- إلى ما فعله أبو أيوب؛ إذ لم يشغل امرأته بكل واجباتِ الإعداد، بل كلفها بما تُحسنه ولا يشق عليها، وقام هو بما يُمكنه، فقال لها: اعجني لنا وأنتِ أعلمُ بالخبز، وأخذ هو الجدي فطبخه وشوى نصفه، وتعاونا بذلك على إكرام الضيوف.
(4) مكافأة صانع المعروف على صنيعه: هذه قيمة إسلامية كريمة وهدي نبوي عظيم، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ اسْتَعَاذَ بِاللَّهِ فَأَعِيذُوهُ، وَمَنْ سَأَلَ بِاللَّهِ فَأَعْطُوهُ، وَمَنْ دَعَاكُمْ فَأَجِيبُوهُ، وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفًا فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تُكَافِئُونَهُ فَادْعُوا لَهُ حَتَّى تَرَوْا أَنَّكُمْ قَدْ كَافَأْتُمُوهُ".
وعملاً بهذا الهدي الكريم فقد كافأ النبي- صلى الله عليه وسلم- أبا أيوب رضي الله عنه على صنيعه الطيب الكريم بأن أعطاه الجارية التي كانت تخدمه صلى الله عليه وسلم، وأوصاه بها خيرًا.
(5) دقة فهم أبي أيوب وعمق وعيه وحسن تطبيقه لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذْ لم يجد في نفسه وجهًا لتفسير وصية رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إياه بالجارية خيرًا من إعتاقها؛ إكرامًا وتنفيذًا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك غاية كمال الأدب والحب والطاعة. رضي الله عن سيدنا أبي أيوب وألحقنا به في الصالحين.
الموقف الثالث: موقف أبي أيوب وأم أيوب من قصة الإفك
عَن مُحَمَّد بْن إِسْحَاق، عَن أَبِيهِ، قال ابن إسحاق: حدثني أبي إسحاق بن يسار عَن بَعْض رجال بَنِي النجار أَن أبا أيوب خَالِد بْن زَيْد- رضي الله عنه- قَالَتْ لَهُ امرأته أمُّ أيوب: يا أبا أيوب، أَلا تسمع مَا يَقُول النَّاس فِي عَائِشَة؟ قَالَ: بلى وَذَلِكَ الكذب، أكنتِ يا أمَّ أيوب فاعلة ذَلِكَ ؟ قَالَتْ: لا والله مَا كنت لأفعله، قَالَ: فعائشة والله خيرٌ منكِ
وعن بعض الأنصار أن امرأة أبي أيوب قالت له حين قال أهل الإفك ما قالوا، فقال لها: يا أم أيوب أكنتِ تفعلين ذاك؟ فقالت: لا والله. فقال: فعائشة والله خير منكِ وأطيب. فأنزل الله عز وجل ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ (النور: 12) يعني قول أبي أيوب لأم أيوب، وكان أبو أيوب قال لها: إن الذين قالوا لها هو إفك.
يستفاد من هذا الموقف المفاهيم التربوية التالية:
(1) معرفة أبي أيوب وأم أيوب الأدب الواجب نحو بيت النبوة الكريم: لمَّا كانت نساء النبي صلى الله عليه وسلم هن أمهات المؤمنين فقد عرف الزوجان الكريمان أبو أيوب وأم أيوب رضي الله عنهما ما ينبغي أن يكون عليه يقين المؤمن نحو أمه، ونحو بيت النبوة الطاهر، وقد نقل عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في معنى ﴿ظَنَّ المُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا﴾ قال: ظن المؤمنون أن المؤمن لا يفجر بأمه. وهذا الذي دلَّ الحديث على أنه كان يقينًا في نفس أبي أيوب وأم أيوب، والآية بذلك شاهدة على وصفهما بالإيمان.
وقيل: المعنى أنه كان ينبغي أن يقيس فضلاء المؤمنين والمؤمنات الأمر على أنفسهم، فإن كان ذلك يبعد فيهم فذلك في عائشة وصفوان رضي الله عنهما أبعد، وهذا النظر السديد هو الذي وقع من أبي أيوب الأنصاري وامرأته. وهذا هو الذي عاتب الله تعالى عليه المؤمنين إذ لم يفعله جميعهم.
(2) واجب المؤمن نفي شائعة الشر وقالة السوء عن المؤمنين: قوله تعالى ﴿بِأَنفُسِهِمْ﴾ معناه بإخوانهم، فأوجب الله على المسلمين إذا سمعوا رجلاً يقذف أحدًا ويذكره بقبيح لا يعرفونه به أن ينكروا عليه ويكذبوه، مثلما فعل أبو أيوب وأم أيوب رضي الله عنهما، وتوعَّد سبحانه مَن ترك ذلك ومَن نقله.
وقد عدل سبحانه عن الخطاب ﴿لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ إلى الغيبة ﴿ظَنَّ المُؤْمِنُونَ﴾ وعن الضمير إلى الظاهر؛ ليبالغ في التوبيخ بطريقة الالتفات، وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الاشتراك فيه مقتضٍ أن لا يصدِّقَ مؤمن على أخيه ولا مؤمنة على أختها قول عائب ولا طاعن. وتقديم الظرف وهو ﴿إِذْ سَمِعْتُمُوهُ﴾ على عامله وهو ﴿قلتم﴾ للاهتمام بمدلول ذلك الظرف؛ تنبيهًا على أنه كان من واجبهم أن يطرق ظنُّ الخير قلوبهم بمجرد سماع الخبر، وأن يتبرؤوا من الخوض فيه بفور سماعه.
وفي هذا تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالةً في أخيه أن يبني الأمر فيها على الظن الحسن لا على الشك، وأن يقول بملء فيه بناءً على ظنه بالمؤمن الخير: ﴿هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ﴾ هكذا بلفظ المصرح ببراءة ساحته كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال.
وهذا من الأدب الحسن الذي قلَّ القائم به والحافظ له، وليتك تجد مَن يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه بإخوته وأخواته!.
الموقف الرابع: النبي صلى الله عليه وسلم يرفض طلاق أم أيوب وأبو أيوب يمتثل
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ أَبَا أَيُّوبَ رضي الله عنه طَلَّقَ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:"إِنَّ طَلاقَ أُمِّ أَيُّوبَ كَانَ حُوبًا" قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: الْحُوبُ: الإِثْمُ.
وعن أنس- رضي الله عنه- أن أبا أيوب أراد طلاق أم أيوب، فاستأذن النبي- صلى الله عليه وسلم- فقال: "إِنَّ طَلاقَ أُمِّ أَيُّوبَ لَحُوبٌ" فأمسكها
يُستفاد من هذا الموقف المفاهيم التربوية التالية:
(1) حفظ الجميل بين الزوجين وعدم استعجال الطلاق: قد تتعرض الحياة الزوجية لبعض الهزَّات المفاجئة نتيجةً لأي سببٍ قد يعترضها، لكن الإسلام يُربي المؤمن والمؤمنة على حفظ كل منهما الجميلَ للآخر، وعلى وجوب ذكر الحسنات قبل البناء على السيئات، فتلك هي العشرة بالمعروف التي أمر الله بها ﴿وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ (النساء: 19).
ومن ثم فإن النبي- صلى الله عليه وسلم- رفض أن يأذن لأبي أيوب رضي الله عنه في طلاق أم أيوب- رضي الله عنها- بعد تلك الحياة الحافلة بالفضائل والجلائل والمشاركة في كل أسباب البر والخير، ووصف ذلك بأنه حُوبٌ أي إثم. وهذا تقديرٌ منه صلى الله عليه وسلم لتلك المرأة الصالحة ولمواقفها الجليلة، التي أسلفنا بعضها من قبل. فهل يعي المسلمون هذا الدرس النبوي العظيم!
(2) الطاعة الكاملة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- وتقديم رأيه على هوى النفس: لقد ضرب أبو أيوب- رضي الله عنه- للمؤمنين نموذجًا عمليًّا فذًّا في كيفية المتابعة الصحيحة لسنة رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، فهو لم يبادر إلى تطليق زوجه باعتبار ذلك شأنًا شخصيًّا، بل ذهب يستأذن رسول الله- صلى الله عليه وسلم-، وفي هذا إشارة إلى أن المسلم ينبغي له قبل أن يُقْدِم على أي تصرفٍ أن يعرف حكم الله ورسوله فيما يقدم عليه، وما إذا كان ذلك مما يحبه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أو يبغضه.
ولم يكن ذلك من أبي أيوب- رضي الله عنه- مجرد استشارة غير ملزمة، بل إنه تقيد بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمسك أم أيوب فلم يطلقها، وترك رغبته في طلاقها نزولاً على رغبة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في إمساكها؛ وذلك تمام الأدب اللائق بالمسلم والمسلم ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا﴾ (الأحزاب36).
رضي الله عن أبي أيوب وأم أيوب وألحقنا بهم على خير وجه، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
______________________________
السبت أبريل 23, 2011 2:49 pm من طرف admin
» رحلة مدرسي الحلقات الى خيلة بقشان
الخميس فبراير 24, 2011 2:03 am من طرف admin
» دعم من جمعية السبيل حلقات جامع الغرف و الرضوان تقيم رحلة إلى مديرية دوعن
الأحد فبراير 13, 2011 2:04 pm من طرف admin
» فضائل سور القرآن الكريم كما حققها العلامة الألباني - رحمه الله -
الأحد فبراير 06, 2011 4:02 am من طرف hkas2011
» (ليحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يضلونهم)
الأحد فبراير 06, 2011 3:57 am من طرف hkas2011
» أين نحن من القرآن!!!
الأحد فبراير 06, 2011 3:53 am من طرف hkas2011
» تأملات تربوية في قصة قارون
الأحد فبراير 06, 2011 3:49 am من طرف hkas2011
» وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ
الأحد فبراير 06, 2011 3:42 am من طرف hkas2011
» يا أمة الأسلام لا تتخذوا القران مهجورا
الأحد فبراير 06, 2011 3:05 am من طرف admin